أخبارالأخبار العالمية

بحر الصين الجنوبي.. ممر الصراع والازدهار

د. أيمن سمير

ارتباط بحر الصين الجنوبي بمضيق «ملقا»، وبحر الصين الشرقي، يجعله الأكثر ارتباطاً بسلامة واستدامة سلاسل التوريد في العالم

الإصرار على «حرية الملاحة»، والاستثمار في الخلافات، والدعوة للتوجه للمحكمة الدائمة، والتوسع في القواعد العسكرية، أدوات أمريكية في بحر الصين الجنوبي

كل العيون ترنو إليه، على ضفافه يتحدد مستقبل العالم. إنه أكثر بحار الأرض ازدحاماً، ليس فقط بالسفن التي تحمل البضائع والغذاء والطاقة للبشرية؛ بل أيضاً بحاملات الطائرات والفرقاطات العسكرية. اختاره المتنافسون على قمة هرم قيادة العالم، ليكون «الحلبة» التي يحسمون فيها التنافس. «الاستقطاب الحاد» للفوز بالعقول والقلوب، يشمل الجميع حتى الذين خارج الإقليم. بناء القواعد العسكرية والجزر الصناعية يسير جنباً الى جنب مع تشكيل التحالفات العسكرية والسياسية والاقتصادية الجديد منها والقديم.

إنه بحر الصين الجنوبي الذي يدور حوله التنافس والصراع ليس فقط بين الولايات المتحدة والصين؛ بل أيضاً بين الصين و6 دول في المنطقة حول حقوق السيادة، وحدود المناطق الاقتصادية الخالصة، وحرية الملاحة وعبور السفن. فالأرقام تؤكد أن نحو 11 تريليون دولار تمثل 40% من التجارة الدولية، تعبر في بحر الصين الجنوبي الذي تصل مساحته إلى نحو 3.5 مليون كلم مربع، وبه احتياطات ضخمة من الغاز والنفط الذي تحتاج إليها الدول الصناعية المتشاطئة للبحر. فما طبيعة الخلافات بين الصين وجيرانها الآسيويين في بحر الصين الجنوبي؟، ولماذا تصر السفن الحربية الأمريكية والغربية على المرور في هذا البحر الذي يضم مضيق تايوان الذي يفصل الصين عن تايوان؟ وما العلاقة بين ما يدور في بحر الصين الجنوبي ومنطقة الأندو – باسيفك وخليج ملقا ببحر الصين الشرقي؟ وما أهمية وارتباط كل ذلك بمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط وشرق إفريقيا؟

أهمية استثنائية

يرتبط بحر الصين الجنوبي ب«مضيق ملقا» الذي يربط بين المحيطين الهندي والهادي، ويشكل الممر البحري الحيوي لمنطقة الإندو- باسيفك، وتعتمد عليه الإمدادات الخارجية، خاصة الطاقة لأكبر 4 دول سكاناً في العالم هي: الهند والصين وإندونيسا واليابان، وتعتمد كل هذه الدول على إمدادات الطاقة من منطقة الخليج والشرق الأوسط، وتمر في مضيق ملقا المرتبط ببحر الصين الجنوبي نحو 50 ألف سفينة تجارية وعسكرية سنوياً، كما أن الصراع التايواني – الصيني، يدور في بحر الصين الجنوبي، وكل التقديرات الأمريكية والآسيوية تقول إن أي حرب بين الولايات المتحدة والصين سوف تندلع، بسبب تايوان؛ سيكون محورها بحر الصين الجنوبي الذي يضم مضيق تايوان، الفاصل بين البر الصيني وجزيرة تايوان، وليس هذا فقط؛ بل يقود بحر الصين الجنوبي شمالاً إلى بحر الصين الشرقي؛ حيث الخلاف الصيني الياباني على جزر سينكاكو التي تقع تحت السيطرة اليابانية، وتطالب بها الصين.

حرب الأفيون الجديدة

لسان حال الصين يقول، لماذا تأتي حاملات الطائرات والبوارج العسكرية الأمريكية والبريطانية إلى بحر الصين الجنوبي الذي يبعد عن الولايات المتحدة نحو 10 آلاف كلم؟ وتقوم فلسفة بكين في التعاطي مع الخلافات في بحر الصين الجنوبي على سلسلة من الخطوات في مقدمتها:

*أولاً: الحقوق التاريخية، فالصين ترى أن لها السيادة الكاملة على 80% من مياه وجزر بحر الصين الجنوبي الذي تساوي مساحته مساحة البحر الأبيض المتوسط، ونشرت الصين أكثر من مرة الخريطة التي وزعتها أول مرة عام 1947، أي عندما كان حلفاء وأسلاف الحكومة الحالية في تايوان هم الذين يحكمون من بكين كل الأراضي الصينية؛ وذلك قبل عامين كاملين من ثورة 1949. وتضم تلك الخريطة أغلب المياه والجزر في بحر الصين الجنوبي ضمن حدود الأمة الصينية، بما فيها سلسلة الجزر غير المأهولة، ومنها على سبيل المثال جزر باراسيل وسبراتلي و سكاربره.

* ثانياً: بناء الجزر الصناعية، فالصين ترد على الاقتراب الأمريكي والغربي من هذه المنطقة الشاسعة، ببناء الجزر الصناعية التي يمكن أن تستقبل الطائرات الصينية وأجهزة الإنذار المبكر، وتشكل خط دفاع متقدم على الأراضي الصينية، وتنظر بكين إلى الجزر الصناعية التي تشيدها على مسافات بعيدة من البر الصيني نحو 1800 كلم من الشاطئ الصيني، باعتبارها تقع ضمن الجرف القاري الخاص بها، وفي قلب منطقتها الاقتصادية الخالصة.

* ثالثاً، «تعزيز القوة الصينية» من خلال إرسال رسائل متنوعة للغرب، عبر التلويح بقوتها العسكرية الصاعدة من خلال إجراء المناورات بالذخيرة الحية مثل مناورات «السيف القاطع» التي جرت حول تايوان هذا الشهر. ونجحت الصين في بناء حاملة الطائرات الثالثة «فوجيان» بعد حاملتي الطائرات «شاندونغ» ولياونينغ حتى تكون قادرة على الذهاب إلى أي بقعة من مساحة بحر الصين الجنوبي، كما عززت الصين ترسانتها من الصواريخ الطويلة المدى والعابرة للقارات مثل صاروخ «دونغ فنغ 41» أو «رياح الشرق 41»، وهو من الصواريخ العملاقة التي تعمل بالوقود الصلب، وأثبت قدرته على إصابة الأهداف بدقة متناهية، ويستطيع أي يصل إلى أبعد نقطة في بحر الصين الجنوبي من منصات الإطلاق في الأراضي الصينية، ناهيك عن نجاح الصين في بناء أسطول من الطائرات الحربية والقاذفات الاستراتيجية؛ منها ظهور القاذفة «أتش 6 ك» في نهاية عام 2022. وكل هذا رسائل بأن الصين لا يمكن أن تتسامح مع أي محاولات لنزع سيادتها على ما تراه حقوقاً سيادية لها في مياه وجزر بحر الصين الجنوبي.

*رابعاً، «حلقة من النار»، وتعد بكين أن كل القضايا الجيوسياسية التي تثيرها الولايات المتحدة وحلفاؤها في بحر الصين الجنوبي، تأتي وفق استراتيجية الغرب في بناء «حلقة من النار» حول الأراضي الصينية، لمنعها من تحقيق طموحاتها في حيازة قمة هرم القيادة العالمية، وكثيراً ما تصف الصين السلوك الأمريكي في بحر الصين الجنوبي، بأنه نوع جديد من حروب الأفيون التي لن تسمح بها. فالمعروف أن بريطانيا شنت حربين ضد الصين؛ حيث كانت «حرب الأفيون الأولى» عام 1839، بينما كانت «حرب الأفيون الثانية» عام 1956.

*خامساً، «دكتاتورية الجغرافية»، ترفض الصين بشكل قاطع الاستسلام لأي محاولات أمريكية للتضيق جغرافياً عليها في بحر الصين، وفق نظرية «ديكتاتورية الجغرافيا» والتي تقول إن الصين لا يمكن أن تصبح دولة عظمى في ظل محاصرتها جغرافياً ب4 جزر كبرى؛ هي: اليابان وأستراليا وأندونيسيا وتايوان، وتعلن ليلاً ونهاراً أنها سوف تحافظ على كل شبر من مياه بحر الصين الجنوبي.

*سادساً، «رفض العسكرة»، تعتقد الصين أن الحوار وطاولة المفاوضات، وليس لغة التهديد هي الحل لكل مشاكل بحر الصين الجنوبي، وتدعو الولايات المتحدة إلى عدم التدخل في الخلافات بين الصين وجيرانها في بحر الصين الجنوبي، وتقول إن «العسكرة الأمريكية» لبحر الصين الجنوبي لن تؤدي لأي تنازلات صينية.

حرية الملاحة

في المقابل، تقول الولايات المتحدة إنها موجودة في المنطقة من أجل تطبيق مبدأ «حرية الملاحة والاستخدام القانوني للبحار» وفق أعراف القانون الدولي، وتقوم الاستراتيجية الأمريكية في بحر الصين الجنوبي على مجموعة من المحاور؛ وهي:

1- رفض الاعتراف بما تقوله الصين عن «حقوقها السيادية» في بحر الصين الجنوبي، وتدعم واشنطن في نفس الوقت، مطالب حلفائها الستة، وهم: فيتنام والفلبين وأندونيسيا وسلطنة بروناي وسنغافورة وتايوان، ونجحت الولايات المتحدة في جمع دول أخرى في المنطقة وخارجها، لدعم مطالب الدول الست مثل دول الاتحاد الأوربي وبريطانيا إضافة إلى اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلاندا.

2- تطلب واشنطن من بكين الالتزام باتفاقية الأمم المتحدة لأعالي البحار التي جرى التوصل إليها عام 1982، ودخلت حيز التطبيق عام 1994، والتي تقول إن لكل دولة 13 ميلاً بحرياً من الشاطئ، إضافة إلى 200 ميل بحري هي المنطقة الاقتصادية الخالصة. وتقول واشنطن إن كل المياه خارج تلك الحدود التي حددتها اتفاقية الأمم المتحدة حول تقسيم أعالي البحار ليست تابعة للصين، وتتهم الصين ببناء قواعد وجزر صناعية خارج منطقتها القانونية، والسيطرة على شعاب مرجانية على مسافة تقترب من 1800 كلم من البر الصيني.

3 – تستثمر الولايات المتحدة في «الخلاف الصيني مع دول بحر الصين الجنوبي»، فمن خلال هذه الخلافات، استطاعت الولايات المتحدة تعزيز علاقاتها مع كل دول بحر الصين الجنوبي، خاصة فيتنام والفلبين، ويقول البيت الأبيض إن جوهر سياسته في المنطقة، تقوم على أنه لن يسمح بما يسميه ب«التنمر الصيني» على جيرانها.

4- تشجع الولايات المتحدة حلفاءها في بحر الصين الجنوبي على التوجه ل«المحكمة الدائمة في لاهاي» للحصول على حكم قانوني بحقوقهم السيادية في بحر الصين الجنوبي، وسبق للفلبين أن حصلت على حكم من هذه المحكمة عام 2016، لكن الصين لا تعترف به.

5- إرسال السفن العسكرية وحاملات الطائرات، لتأكيد ما تسمية بمبدأ «حرية الملاحة» بالقرب من الجزر الصناعية التي شيّدتها الصين في بحر الصين الجنوبي، إضافة إلى توسيع الوجود العسكري الأمريكي والقواعد العسكرية في دول بحر الصين الجنوبي، وكمثال على ذلك الاتفاق الذي وقعته واشنطن ومانيلا في 6 إبريل/ نيسان الجاري على انتشار القوات الأمريكية في 4 قواعد عسكرية جديدة في أرخبيل الفلبين، بما يرفع الوجود الأمريكي في الفلبين إلى 9 قواعد عسكرية أغلبها في اتجاه الأراضي الصينية، ويتطابق مع هذا الأمر تكثيف الولايات المتحدة من المناورات المشتركة والتدريب العسكري وبيع الأسلحة الحديثة للدول التي لديها خلافات مع الصين.

الحسابات العربية

يمثل بحر الصين الجنوبي أهمية خاصة لمنطقة الخليج والإقليم العربي؛ حيث تستورد الدول الكبرى في شرق آسيا ومنها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية النفط والغاز من منطقة الخليج، كما تعتمد الكثير من الدول العربية على سلاسل الإمداد التي تتعلق بالصناعة والخدمات على التجارة التي تمر في بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا، وهو ما يعطي بحر الصين الجنوبي أهمية للمنطقة العربية التي تبني سياستها على ضرورة حل كل الخلافات بالطرق السلمية، وعبر مائدة النقاش والتفاوض، وليس عبر لغة البندقية والرصاص.


المصدر: صحيفة الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى