
الإمارات والهند.. إرث تاريخي وإرادة سياسية وتوافق ثنائي
إعداد: راشد النعيمي
تستند العلاقات الإماراتية – الهندية، إلى ميراث تاريخي من التعاون والتفاهم المشترك، وإرادة سياسية مشتركة لدى قيادتي الدولتين نحو تعزيزها، ودفعها قدماً إلى الأمام، فضلاً عن التوافق بينهما إزاء مختلف القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما جعل من هذه العلاقات عاملاً مهماً في تعزيز أسس الأمن والاستقرار على مستوى العالم.
كما ترتبط الإمارات والهند بعلاقات ثنائية قوية ذات جذور تاريخية؛ حيث عينت الإمارات أول سفير لها لدى نيودلهي في عام 1972، وقبل ذلك بنحو 9 أعوام، وتحديداً في يونيو/ حزيران من عام 1963، عيّنت الهند أول سفير لها لدى الإمارات.
وتتسم العلاقات بين الدولتين ببعدها الشعبي والثقافي والحضاري المتميز، من خلال روابط قديمة، عززها وجود الخبرات والكوادر الهندية على أرض الإمارات منذ سنوات طويلة.
وتعد الهند أول دولة تعقد معها الإمارات شراكة اقتصادية شاملة، بدعم من صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وناريندرا مودي، رئيس وزراء جمهورية الهند الصديقة، في فبراير/ شباط عام 2022؛ وهي الشراكة التي تأتي ضمن استراتيجية الدولة، لإبرام شراكات اقتصادية شاملة مع أهم الشركاء التجاريين، في ضوء «مشاريع الخمسين».
وكما أشار صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، فإن العلاقات الإماراتية – الهندية، هي علاقات تاريخية تعود إلى مئات السنين؛ حيث كان للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الدور البارز في ترسيخ هذه العلاقة، ووضع الأسس القوية لانطلاقها.
وجاءت زيارة المغفور له الشيخ زايد التاريخية إلى جمهورية الهند في عام 1975، منطلقاً أساسياً لكل ما شهدته العلاقات بين البلدين الصديقين من تطور وتقدم خلال العقود الماضية، كما شكّلت زيارة رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1981، نقلة نوعية أخرى في مسار علاقات البلدين الصديقين.
نقلة نوعية
شهدت العلاقات الإماراتية – الهندية، خلال السنوات القليلة الماضية، نقلة نوعية كبيرة، توجت باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الموقعة في فبراير/ شباط 2022، واتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما في عام 2017، لتشكلا مرحلة متقدمة في مسار العلاقات الثنائية، خاصة أن هذه الشراكات لا تقتصر فقط على التنسيق السياسي والدبلوماسي والحوار الاستراتيجي، إنما تتضمن أيضاً التعاون في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأمنية والثقافية.
ولعل ما يؤكد أهمية هذه الشراكة، أن هناك حرصاً مشتركاً لدى قيادتي الدولتين لتطويرها باستمرار، كي تعزز من مصالحهما المشتركة، وتواكب تطلعات شعبي البلدين.
كما أن تميز العلاقات الإماراتية – الهندية، وما تشكله من نموذج ناجح للشراكات الثنائية بين الدول، لم يأتِ من فراغ، إنما من قناعة ثنائية مشتركة بأهمية هذه العلاقات، وضرورة تطويرها ودفعها إلى الأمام باستمرار، فضلاً عن تقدير الهند المتزايد لدولة الإمارات وقيادتها الرشيدة، بما تمثله من نموذج فريد في التنمية والتسامح والتعايش.
وعززت العلاقات القوية والشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الإمارات والهند في مختلف المجالات، من دور الدولتين في حفظ الأمن والاستقرار على مستوى المنطقة والعالم أجمع، وهو ما بدا واضحاً في تبنيهما مواقف مشتركة فيما يتعلق بمواجهة مصادر تهديد الأمن والسلم على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفي مقدمتها التطرف والإرهاب.
وتدرك الدولتان أن الإرهاب يشكل خطراً عاماً على جميع دول العالم، كما أنهما تعارضان بشدة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، بغض النظر عن مرتكبه ودوافعه ومكانه، وتعملان معاً من أجل محاربة التطرف والأصولية وسوء استخدام الدين من قبل الجماعات والدول، للتحريض على الكراهية وارتكاب أعمال الإرهاب، كما تطالبان دائماً بضرورة العمل على نشر قيم السلام والتسامح التي تدعو إليها كل الأديان.
ويؤكد البلدان دوماً ضرورة مواصلة الجهود، لنشر التجربة الإماراتية – الهندية، في بناء مجتمعات يقتدى بها في محاربة الإرهاب والتطرف، خاصة أنهما تشكلان تجربتين متطابقتين في التعايش السلمي والتعددية الثقافية.
وتضمن الإمارات لأكثر من مئتي جنسية، العيش على أراضيها في أمن وسلام، فيما تحتضن الهند عشرات الملايين من مختلف الديانات والأعراق، وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك في أن الدولتين نجحتا في تحويل قيم التعايش والتسامح إلى ممارسات تنبذ التعصب والتمييز وتعلي من شأن التفاهم والحوار والعيش المشترك.
وتثبت الإمارات والهند يوماً بعد آخر أنهما نموذجان ملهمان لدول المنطقة والعالم أجمع في التنمية والتعايش البناء، ليس فقط لأنهما استطاعتا تحويل قيم التعايش والتسامح إلى واقع حقيقي يلمسه كل من يعيش على أرضيهما، إنما أيضاً لأنهما يشاركان بإيجابية في أي جهود تستهدف تعزيز أسس الأمن والتنمية والسلم على الصعيدين الإقليمي والدولي.
نموذج متطور
نجحت دولة الإمارات وجمهورية الهند في ترسيخ نموذج متطور ومستدام لعلاقاتهما الاستراتيجية التي أثمرت عن العديد من الإنجازات النوعية في عدة قطاعات، وتقوم الشراكة الاقتصادية والتجارية التي تجمع البلدين على قيم التعاون واحترام المصالح المشتركة، وتحقيق المنفعة المتبادلة والتعامل بروح التعاون والصداقة.
ومن خلال اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، وضعت حكومتا البلدين، الأساس أمام الشركات والمستثمرين، لتحقيق الاستفادة المثلى من هذه الشراكة الثنائية المتميزة.
وتحرص الإمارات على زيادة استثماراتها بالهند خلال المرحلة المقبلة في مختلف القطاعات ذات الاهتمام المشترك، لا سيما أن صناديق الثروة السيادية الإماراتية ضخت استثمارات تقدر ب10 مليارات دولار في مجالات الطاقة المتجددة، والاتصالات والبنية التحتية للطرق والعقارات والشركات الناشئة، فيما تشهد الاستثمارات الهندية زيادة مستمرة في الدولة؛ حيث تم تسجيل 11 ألف شركة هندية جديدة في عام 2022، ليصل إجمالي الشركات الهندية في الإمارات إلى أكثر من 83 ألف شركة.
وتعد اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات والهند علامة فارقة لكلا البلدين؛ حيث تؤسس منصة بالغة الأهمية للنمو المستدام طويل الأجل، من خلال تعزيز وصول المصدرين والصناعيين والمستثمرين إلى الأسواق، والأهم من ذلك، أنها عززت علاقات صداقة تاريخية لدولة الإمارات، وفتحت مسارات جديدة للتعاون الاقتصادي والثقافي، كما تمثل هذه الاتفاقية أيضاً تحالفاً رائعاً للنمو، وهذا التحالف من شأنه أن يربط بين البلدين أكثر من أي وقت مضى، ويخلق فرصاً لا حدود لها للشعبين الصديقين.
شراكة شاملة
جاءت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بمنزلة اعتراف لائق بالعلاقات الثنائية القوية التي تربط البلدين، والممتدة على مدار 50 عاماً وتسعى إلى تعزيز ديناميكية التجارة والاستثمار والتعاون في قطاعات اقتصادية جديدة ومتنوعة؛ مثل الاقتصاد الرقمي والطاقة والعمل المناخي والتقنيات الناشئة والمهارات والتعليم والأمن الغذائي والشركات الصغيرة والمتوسطة والرعاية الصحية.
وحققت هذه الاتفاقية نتائج مميزة وإيجابية؛ حيث لعبت دوراً بارزاً في تعزيز المبادلات التجارية، وتسهيل التدفقات الاستثمارية، وخلق المزيد من الفرص والممكنات أمام المصدرين والمستوردين في أسواق البلدين، من خلال المميزات التي تمنحها الاتفاقية؛ ومنها: بيئة مفتوحة وغير تمييزية للتجارة عبر الحدود مع الهند، وإلغاء التعرفة الجمركية على أكثر من 80% من السلع الإماراتية والهندية، وتعزيز وصول مزودي الخدمات إلى الأسواق عبر 11 قطاعاً رئيسياً وأكثر من 100 قطاع فرعي، بما في ذلك التجارة الرقمية وحقوق الملكية الفكرية، إضافة إلى توفير فرص العمل في العديد من القطاعات والأنشطة الاقتصادية.
وتشهد علاقات البلدين زخماً متواصلاً، مدفوعاً بالرغبة المشتركة لدى أبوظبي ونيودلهي في المضي قدماً بتعاونهما، والبناء على ما حققاه من نجاحات في ضوء شراكتهما الاقتصادية الشاملة، لتعزيز حجم التبادل التجاري غير النفطي بينهما والذي وصل خلال عام 2022 إلى 189 مليار درهم، بنمو قدره 15% مقارنة بعام 2021.
وذلك إضافة إلى العمل بشكل وثيق مع الشركاء في الحكومة الهندية على إرساء آليات من شأنها زيادة حجم الاستثمارات المتبادلة وتنويع مظلتها لتشمل قطاعات جديدة خلال المرحلة المقبلة؛ حيث بلغت قيمة التدفقات الاستثمارية الإماراتية إلى الهند نحو 56.5 مليار درهم بنهاية 2022، وتركزت في قطاعات الطاقة المتجددة، والاتصالات والبنية التحتية للطرق والعقارات والشركات الناشئة، فيما تشهد الاستثمارات الهندية زيادة مستمرة في الإمارات، وسجلت ما قيمته 30 مليار درهم بنهاية عام 2020.
نمو استثماري
تعد الإمارات من أهم الدول المستثمرة في الهند؛ حيث تستحوذ على نسبة تتجاوز 2% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى الهند، والأولى عربياً والتاسعة عالمياً، لتعد الهند واحدة من أكبر الشركاء الاستثماريين لدولة الإمارات، سواء في الاستثمارات الصادرة من الدولة أو الواردة إليها؛ حيث تستحوذ الهند على أكثر من 25% من إجمالي استثمارات الدول الآسيوية غير العربية الواردة إلى الإمارات.
وأعلن وزير التجارة الهندي سونيل بارثوال في مايو/ أيار الماضي، أن بلاده تأمل في زيادة قيمة صادراتها إلى الإمارات، لتبلغ 50 مليار دولار بحلول السنة المالية (2026-2027) مضيفاً أن الهند تأمل في تحقيق الاستفادة القصوى من اتفاق التجارة بين البلدين الذي أدّى إلى زيادة الواردات الهندية من الإمارات، وزيادة صادرات بعض القطاعات الهندية.
فيما أظهرت بيانات حكومية هندية، أن صادرات قطاعي الآلات والمعدات الكهربائية والسيارات إلى الإمارات ارتفعت 32 في المئة و42 في المئة على الترتيب على أساس سنوي بين إبريل/ نيسان 2022 ومارس/ آذار 2023.
منصات متبادلة.
استقطبت الإمارات أعداداً كبيرة من رجال الأعمال والمستثمرين الهنود، وأصحاب الشركات والتجار من مختلف القطاعات الاقتصادية، الذين أبدوا رغبتهم بالتواجد في الدولة والمناطق الحرة فيها وتأسيس أنشطة اقتصادية مختلفة، بعد أن اطلعوا على التسهيلات التي تقدمها الجهات المعنية لهم، والاستفادة من الموقع الجغرافي للدولة التي تتوسط منطقة جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، إضافة إلى الموانئ البحرية العديدة ذات المواصفات العالمية والتي تستقبل السفن العملاقة بإجراءات ميسرة مع كافة الخدمات المطلوبة ما يجعلها من أفضل الموانئ التي يمكن للهند أن تستفيد منها في تجارة إعادة التصدير.
وتشترك الإمارات والهند في عدد من المنصات المتبادلة مثل فرقة العمل الرفيعة المستوى من الاستثمار والحوار الاستراتيجي، والمفوضية المشتركة، والمنتدى الاقتصادي الإماراتي الهندي، الذي يسمح للخبراء والمتخصصين من الجانبين بالاجتماع وإجراء مناقشات حول عدد من القضايا؛ بهدف نمو العلاقات الثنائية بين البلدين إلى مستويات جديدة.
أما عن الجالية الهندية في الإمارات، وعددها نحو 3 ملايين شخص، تمثل دوراً مهماً في تعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية بين الدولتين؛ حيث تبلغ تحويلات أعضاء الجالية من دولة الإمارات إلى موطنهم نحو 13 مليار دولار أمريكي سنوياً، ويحتلون نحو 50% من سوق العقارات في الدولة.