مدينة الموتى في مصر.. نفائس العمارة والتاريخ
- تجمع رفات البسطاء و الحكام والباشوات
القاهرة: ياسين محمد
تبدو مقابر القاهرة العتيقة، بامتدادها الرهيف في المنطقة الواقعة عند سفح جبل المقطم، وقباب مقابرها القديمة مختلفة الأشكال والألوان، مثل مدينة أسطورية، في قلب العاصمة المصرية، إذ لا يتوقف دورها عند حدود مراسم الوداع الحزين للراحلين، بعدما تحولت في السنوات الأخيرة، إلى قبلة للباحثين في علوم التاريخ والتراث، على ما تضمه من رفات لعشرات من كبار العلماء في علوم الدين والدنيا، هؤلاء الذين أشعلوا مصابيح العلم والمعرفة، على مدار قرون من الزمان.
تمتد مدينة الموتى على مسافة كبيرة، بدءاً من حدود منطقة العباسية، انتهاء بصحراء المعادي، وتتخذ شريطاً طويلاً يوازي طريق صلاح سالم، وسفح جبل المقطم، وهي تتكون من جزأين، يطلق على أحدهما «القرافة الكبرى»، التي تمثل منطقة المقابر الرئيسية التي يرجع تاريخ إنشائها إلى الفتح الإسلامي لمصر، وإنشاء مدينة الفسطاط، فيما يطلق على الثانية، القرافة الكبرى، وهي المنطقة الواقعة عند سفح جبل المقطم، والتي تتضمن العديد من مقابر الأمراء والحكام الذين تولوا حكم مصر، بدءاً من أحمد بن طولون، نهاية بمقابر الفاطميين التي كان يطلق عليها «مقابر الزعفران»، والتي كانت تمتد حتى منطقة خان الخليلي حالياً.
لا يعرف أحد على وجه الدقة، لماذا يطلق المصريون على مدينة الموتى اسم «القرافة»، لكن المقريزي يقول في خططه، إن التسمية ترجع إلى قبيلة من المغافر، كان يقال لهم «بنو قرافة»، وقد احترف أبناء تلك القبيلة، تغسيل وتكفين الموتى قبل سنوات بعيدة، ما دفع المصريين إلى إطلاق هذا الاسم على كثير من المناطق التي تضمها مدينة الموتى، والتي تشمل العديد من القرافات، من بينها قرافة السيدة نفيسة، ومقبرة الغفير التي تمتد حتى منطقة العباسية الشرقية، شمال قلعة الجبل.
سجل تاريخي
تبدو مدينة الموتى في القاهرة، على ما تضمه من قرافات، أشبه بسجل تاريخي مفتوح للزائرين، على ما تضمّه من مجموعات فريدة لأضرحة وقباب ومساجد، يرجع كثير منها إلى سلاطين المماليك الجراكسة، وأمرائهم، على نحو ما تضمه القرافة الشرقية، التي يطلق عليها اسم القرافة الكبرى، التي تشغل مساحة كبيرة تمتد من حدود منطقة مصر القديمة حتى قرافة الإمام الليث بن سعد، عند تخوم جبل المقطم.
حتى منتصف القرن الخامس الهجري، كانت قرافة القاهرة، تمتد فقط في المنطقة الواقعة في شرق المدينة، وهي المنطقة التي كان يطلق عليها في هذا الزمان السحيق، اسم «جبانة الفسطاط»، وكان أقدم أجزائها يقع بين مسجد الفتح وسفح المقطم، مروراً بحدود عدد من الأحياء المعروفة حتى اليوم، مثل بطن البقرة والبساتين، وعقبة بن عامر والتونسي، فيما لم تكن المنطقة المحصورة بين قبة الإمام الشافعي، وسفح المقطم، وهي المعروفة حالياً بمقابر الإمام الشافعي، تحوي أية مقابر، إلا بعد أن دفن فيها الملك الكامل محمد الأيوبي ابنه، في عام 608 هجرية، حتى يكون جثمانه إلى جوار قبر الإمام الشافعي، وقد بنى الملك الكامل على المقبرة قبة كبيرة، لا تزال موجودة حتى الآن، وهي القبة التي تعلو ضريح الإمام الشافعي، ما دفع كثيراً من الناس، إلى نقل مقابرهم إلى تلك المنطقة، التي عرفت تالياً باسم القرافة الصغرى.
أوقاف ومدارس
لم تكن المقابر في تلك الفترة من الزمان، مجرد أماكن لدفن الموتى، لكنها كانت أشبه بأحياء تنبض بالحياة، وقد ذكر المؤرخان ابن جبير وابن سعيد، أنهما باتا في حي القرافة ليالي كثيرة، إذ كانت المنطقة تضم إلى جانب القبور مباني خصصت للعناية بها، وأوقافاً للفقراء، إلى جانب مدرسة كبيرة كانت تدرّس الفقه الشافعي، ومن عجب أن هذه المقابر لم تكد تخلو حسبما يقول المؤرخان، من ليالي طرب وغناء، خاصة في الليالي المقمرة، وهو الطقس الذي لم يتوقف حتى بنى المماليك قرافتهم التي لا تزال تعرف بهذا الاسم حتى اليوم، في المنطقة الواقعة في صحراء المماليك، إلى الشرق من طريق صلاح سالم الحالي، مع نهاية القرن الثامن الهجري، وهي الفترة التي بدأ سلاطين المماليك وأمراؤهم فيها، ببناء العديد من المساجد والخوانق بهذه المنطقة، وألحقوا بها المدافن الخاصة بهم، وما إن انتهى القرن التاسع الهجري، إلا وكانت المنطقة تضم مجموعة من العمائر الدينية والقباب، ربما لم تجتمع في صعيد واحد، مثلما اجتمعت في تلك المنطقة التي اهتم بها سلاطين المماليك الشراكسة، خصوصاً السلطان الملك الأشرف قايتباي، والتي يطلق عليها اليوم في مصر مقابر قايتباي.
وتضم مقابر المماليك جثامين العشرات من الحكام الذين تناوبوا حكم مصر خلال ستة قرون، أو يزيد قليلاً، إلى جانب رفات عشرات من سلالة عائلات أسرة وأحفاد محمد على باشا، وعادة ما يقوم حارس بحراسة المقبرة، والعناية بها، حيث تضم هذه المقابر مباني عتيقة وأحواشاً للدفن، تتميز بما تضمه على جدرانها، وشواهد القبور، من زخارف فنية رائعة، تروي فصولاً من تطور فنون الكتابة العربية، وأنواع الخطوط وفنون الزخرفة.
مقابر تاريخية
تجمع مدينة الموتى في القاهرة، على امتدادها الكبير عند سفح جبل المقطم، رفات الحكام والنبلاء والباشوات، جنباً إلى جنب مع رفات البسطاء في منطقة يتساوى فيها الجميع تحت التراب، إلى جانب العديد من المقابر الأخرى لعلماء في علوم الفقه والشريعة، وأئمة في علوم التصوف، ربما كان من أشهرها مقبرة المناضل والسياسي عمر مكرم، وابن عطاء الله السكندري، وقرافة الإمام ابن حجر العسقلاني، وجلال الدين السيوطي، وغيرهم من الصحابة والزهاد، الذين وفدوا إلى مصر بصحبة عمرو بن العاص، ودفنوا في سفح المقطم، إلى جانب عمرو بن العاص نفسه، التي تذهب بعض المراجع التاريخية، إلى أنه دفن عند سفح جبل المقطم، ناحية الغرب من مقبرة الإمام الشافعي، في منطقة كان يطلق عليها فيما سبق، مقابر قريش، لأنها كانت تضم رفات عشرات من الصحابة الذين شاركوا في الفتح الإسلامي، لكن كثيراً من المؤرخين يقولون إن موضع قبر عمرو بن العاص، لا بد وأن يكون قد لعبت به يد النسيان منذ قرون طويلة، خصوصاً أن ابن العاص نفسه، كان يقول حين حضره الموت: «وسنوا على التراب سنا، ولا تجعلوا في قبري خشبة ولا حجراً»، ما يعني أن قبر عمرو لم يعد له أثر.
وتضم القرافة الكبرى في مصر، رفات الفقيه والعلامة ابن حجر العسقلاني، صاحب الكتاب العمدة «فتح الباري في شرح صحيح البخاري»، إلى جانب مئة وخمسين مصنفاً آخرين.
وتعد مقبرة المتصوف الكبير عمر بن الفارض، واحدة من أشهر مقابر القرافة الكبرى في مصر، وقد تربى ابن الفارض على العلم والتقوى والصلاح، حتى إذا صار في ريعان شبابه اشتغل بالفقه، قبل أن يسير في طريق التصوف، زاهداً في الدنيا، ومتجرداً من متاعها، ليتخذ من جبل المقطم مكاناً يخلو فيه إلى نفسه،.