أخبارالأخبار العالمية

كالينينجراد.. برميل بارود جاهز للانفجار

د. أيمن سمير

يحيط بها الأعداء من كل اتجاه، بعيدة عن الوطن الأم بأكثر من 360 كلم، عاش ومات فيها الفيلسوف المرموق إيمانويل كانط، الذي رفض أن يغير ولاءه وقسمه الذي تعهد به للإمبراطورة الروسية إلى الحاكم الألماني.

أتحدث عن مدينة ومقاطعة «كالينينجراد» وهي البقعة الجغرافية الأهم في «الجيو- بولتيك الروسية» التي تطل على بحر البلطيق، لا تتصل كالينينجراد بالأراضي الروسية التي تمتد على مساحة نحو 17.5 مليون كلم من شبه جزيرة كامتشكا في أقصى الشرق الروسي إلى بحر البلطيق غرباً.

يحيط أعداء ومنافسو روسيا بإقليم كالينينجراد من ثلاث جهات، بداية من ليتوانيا التي تجاور كالينينجراد من الشمال والشرق، وصولاً إلى بولندا التي تنفق 4% من ناتجها القومي على شراء السلاح وتجهيز الجيش استعداداً لأي حرب قادمة مع روسيا، في السابق ساعد الأسطول الشمالي الروسي والحياد الفنلندي والسويدي إقليم كالينينجراد على تحقيق «التوازن الاستراتيجي» في بحر البلطيق، لكن انضمام فنلندا والسويد لحلف «الناتو» جعل من الجغرافيا السياسية المحيطة بكالينينجراد بمثابة «جبهة الرصاصة الأولى» التي يمكن أن يطلقها «سيد الكرملين» على قوات «الناتو» التي باتت تزدحم بها مياه بحر البلطيق

لا تملك روسيا رفاهية «حصار كالينينجراد» أو التقييد عليها من جانب الولايات المتحدة والجيوش الغربية، ليس فقط لأن كالينينجراد هي الوجهة الثانية لروسيا على بحر البلطيق مع سان بطرسبرج «مسقط رأس» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل لأن «كالينينجراد» هي العنوان الرسمي المسجل «بعلم الوصول» لكافة الأسلحة الروسية، سواء تلك الأسرع من الصوت أو التي تحمل رؤوساً نووية، ناهيك أن كالينينجراد تضم ميناء بالتييسك، وهو الميناء الروسي الوحيد الخالي من الجليد طوال العام على بحر البلطيق

خصم يصل إلى 50% | عروض التصفية من أمازون

يزيد من «ألسنة اللهب» التي تحيط بمقاطعة كالينينجراد أنها تتصل بالوطن الأم عبر «ممر سوالكي»، وهو ممر يصلها بروسيا عبر طريق بري وخط سكة حديد يمتد إلى بيلاروسيا ثم إلى روسيا الاتحادية، لكن مشكلته أنه يخترق أراضي «الناتو»، لأن «ممر سوالكي» يفصل دول بحر البلطيق الثلاث ليتوانيا ولاتفيا واستونيا شمالاً، عن بولندا جنوباً، فما هي مقاطعة كالينينجراد؟ وما أهميتها لروسيا؟ وكيف يمكن أن تكون ساحة لإطلاق «حرب عالمية ثالثة» كما قال الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيدف؟

«مخلب قط»

كالينينجراد هي عنوان مختصر للتاريخ المتشابك والمعقد بين ألمانيا وروسيا، فعندما تأسست كالينينجراد عام 1250 كانت جزءاً من التراب الألماني، لكن حينما انتصرت روسيا في حرب السنوات السبع على ألمانيا ضمت إليها كالينينجراد عام 1758، وهي الحرب التي وقفت فيها روسيا وهولندا وفرنسا ضد ألمانيا وهانوفر التي لم تكن وقتها جزءاً من الاتحاد الألماني، لكن في عام 1762 عادت كالينينجراد إلى إلمانيا، في ذلك الوقت كان يعيش الفيلسوف «إيمانويل كانط» في كالينينجراد، وسبق له أن أعلن الولاء والقسم للإمبراطورة الروسية إليزابيث، لذلك عندما عادت كالينينجراد إلى ألمانيا رفض كانط أن يغير ولاءه إلى الحاكم الألماني، وظل يحافظ على ولائه وقسمه للإمبراطورة الروسية إليزابيث حتى آخر يوم في حياته عندما توفي عام 1804، وتم منح كالينينجراد، التي لا تزيد مساحتها على 225 كلم ويسكنها نحو نصف مليون نسمة، للاتحاد السوفييتي السابق كتعويض له عن دخوله الحرب العالمية الثانية وخسارته لنحو 33 مليون جندي، وتحتضن كالينينجراد حالياً الأسطول الروسي الشمالي، ورغم أنها كانت منذ قرون طويلة تعيش في بيئة مضطربة سياسياً وعسكرياً، فإنها ظلت على الدوام مركزاً للفنون والمسرح والجامعات الروسية المرموقة منذ تأسيس جامعة ألبرتينا عام 1544

وتنظر الدول المناوئة لروسيا وفي مقدمتها الرباعي ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا وبولندا لإقليم كالينينجراد باعتباره «مخلب قط» أو «مسمار جحا» الروسي في قلب القارة الأوروبية و«خنجراً مسموماً» في قلب أراضي حلف الناتو منذ أن نشرت روسيا عام 2013 صواريخ إسكندر متوسطة المدى، والتي يمكن أن تحمل روؤساً نووية، لهذا حاولت ليتوانيا أن تخنق كالينينجراد اقتصادياً عندما كانت ترفض مرور بعض البضائع، وخاصة الأسمنت والحديد من روسيا وبيلاروسيا إلى كالينينجراد عبر «ممر سوالكي»، لكنها عادت وسمحت بمرور البضائع الروسية عبر خطوط السكك الحديد التي تمر في ممر سوالكي حتى لا تندلع حرب بين روسيا وحلف الناتو

الحسابات الروسية

تقوم الحسابات الروسية على أن إقليم كالينينجراد «رأس حربة متقدم» في عمق أراضي الناتو، لذلك قامت موسكو بسلسلة من الخطوات لتعزيز مكانتها الجيوسياسية في كالينينجراد عبر مجموعة من الخطوات ومنها:

أولاً «إعادة تشكيل منطقة كالينينجراد العسكرية»:

وتم ذلك عبر مرسوم من الرئيس فلاديمير بوتين نفسه صدر في 27 فبراير من العام الجاري، وبناء عليه لم يعد الأسطول الشمالي يتمتع بصفته السابقة كمنطقة عسكرية داخل حدود إدارية، بل أصبح جزءاً من منطقة كالينينجراد العسكرية المشكلة حديثاً، والتي تعتبر إلى جانب منطقة موسكو العسكرية الأقرب إلى السويد وفنلندا، ومنطقة كالينينجراد العسكرية لعبت دوراً كبيراً منذ تأسيسها عام 1918 بعد الثورة البلشفية بعام واحد، وتم حلها في عام 2010، وكانت أصغر المناطق العسكرية الروسية، إذ بلغ عدد القوات البرية والجوية فيها نحو 29 ألف جندي، وسوف تكون منطقة كالينينجراد العسكرية مسؤولة عن صد التهديدات الصادرة من دول البلطيق والدول الإسكندنافية وفنلندا.

ثانياً «حاملة طائرات غير قابلة للغرق»:

تنظر موسكو إلى منطقة كالينينجراد باعتبارها إقليماً لا يمكن التنازل عنه أو المساومة حوله، وتعلن موسكو أنها سوف تحمي كالينينجراد بكل الوسائل المتاحة، لهذا نشرت روسيا الكثير من الصواريخ والأسلحة التقليدية والنووية، وهو ما حول كالينينجراد إلى «برميل بارود» قابل للانفجار في أي وقت حال نشر قوات أو أسلحة نووية في جزيرة جوتلاند السويدية في بحر البلطيق

ثالثاً- «دبلوماسية إسكندر»:

والمقصود بها نشر روسيا للصواريخ المتوسطة من طراز إسكندر، وهو صاروخ يستطيع حمل رؤوس تقليدية ونووية، وزادت روسيا من نشر هذا الصاروخ الذي يمكن أن يصل لأكثر من 10 عواصم أوروبية بما فيها العاصمة الألمانية برلين بعد الانسحاب الأمريكي والروسي من اتفاقية «إيه إن إف» في أغسطس عام 2019، وهي الاتفاقية التي كانت تحد من إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية في أوروبا

رابعاً- تجديد القواعد العسكرية الروسية:

والمقصود هنا تجديد كل القواعد العسكرية الروسية، سواء كانت قواعد للأسلحة أو الذخيرة التقليدية أوالنووية، خاصة قواعد «كوليكوفا» الخاصة بتخزين الذخائر والعتاد العسكري، وقاعدة «بالتيسيك» البحرية، وقاعدة «تشيرنياكوفسك» الصاروخية، وقاعدة «تشكالوفسك» الجوية.

خامساً- مخزون للطائرات الروسية:

وفقاً للأرقام الروسية، يعد إقليم كالينينجراد أكثر أقاليم روسيا التي تضم قواعد عسكرية بها طائرات روسيا الضاربة، مثل سوخوي 24، وسوخوي 30، وسوخوي 35 أو الجيل الخامس، كما أن كالينينجراد هي مركز كبير لنشر الطائرات بدون طيران وخاصة «طائرات فوربوست»، كما تنشر روسيا أفضل منظوماتها الدفاعية في الإقليم وهي منظومة الدفاع الصاروخية «إس 400»، وهو ما يقول إن روسيا تنظر لإقليم كالينينجراد باعتباره أكثر الأقاليم التي يمكن أن يبدأ منها الصراع أو النزاع مع حلف الناتو

سادساً- تعزيز مكانة الطاقة الروسية في أوروبا:

يتجسد ذلك في بناء روسيا «محطة طاقة نووية» في كالينينجراد لتعزيز مكانة موسكو في مجال الكهرباء الذي تحتاجه دول المنطقة بشدة، وجاءت هذه الخطوة في إطار الفهم الروسي بأنه بعد التوصل لاتفاق حول نهاية الحرب الروسية الأوكرانية سوف يعود الأوروبيون من جديد لشراء الطاقة وخاصة الكهرباء من روسيا

سابعاً- «إغلاق ممر سوالكي»:

تتحسب روسيا لإغلاق ليتوانيا لممر سوالكي الذي يعمل كشريان حياة لنحو نصف مليون روسي يعيشون في إقليم كالينينجراد، رغم أن «العبور الآمن» للأفراد والبضائع من روسيا وبيلاروسيا إلى كالينينجراد هو أحد أهم شروط انضمام ليتوانيا إلى الاتحاد الأوروبي بعد توقيع الاتحاد الأوربي وروسيا على اتفاقية الشراكة والتعاون في 24 يونيو 1994، وهو الاتفاق الذي سمح للدولة الليتوانية بالانضمام للاتحاد الأوروبي

معادلات الناتو

يخشى الناتو أن ينفجر برميل الأسلحة التقليدية والنووية الروسية في كالينينجراد في وجه الحلف، لذلك سعى الحلف الذي بات يضم 32 دولة بعد ضم فنلندا والسويد إلى العمل على مجموعة من المعادلات ضد روسيا في كالينينجراد ومنها:

1 – تعزيز الدفاعات الجوية في فنلندا والسويد:

حيث يرى حلف الناتو أن صواريخ إسكندر الروسية التي تنتشر في كالينينجراد قادرة على اختراق الدفاعات الجوية لحلف الناتو في البلدان القريبة مثل فنلندا والسويد وليتوانيا، ولهذا يعمل الحلف على تعزيز الدفاعات الجوية للدول القريبة من كالينينجراد، ويشعر الحلف أنه بات في وضعية استراتيجية أفضل من السابق، لأن الاتحاد السوفييتي في السابق ومن بعده روسيا كانا يقولان إن بحر البلطيق هو «بحر سوفييتي، وإن الأسطول الروسي الشمالي له «الهيمنة الكاملة» في بحر البلطيق، لكن بعد انضمام فنلندا وبعدها السويد، وزحف حلف الناتو لشرق أوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، بات حلف الناتو أكثر جاهزية للتصدي لأي هجوم روسي يبدأ من كالينينجراد

2 – «50 غواصة بالقرب من كالينينجراد»:

تعمل السويد على نشر مزيد من الغواصات الحديثة التي تعمل وفق أسلحة متقدمة ونظام دفع خفي وهياكل قادرة على تجنب الموجات الصوتية، لمواجهة روسيا تحت بحر البلطيق، وهدف استوكهولم هو نشر 50 غواصة قبل عام 2030 بما فيها الغواصة الجديدة من طراز «إيه 26» التي تعمل بالديزل والكهرباء ويبلغ طولها 66 متراً في عامي 2027 و2028، وتحمل اسمي «بليكينج» و«سكين»، وهو اسم مقاطعتين سويديتين.

3 – «حماية جزيرة جوتلاند»:

هدف الناتو ليس فقط تعزيز حماية أكبر جزيرة سويدية في بحر البلطيق، بل أن تتحول «جوتلاند» التي تبعد عن كالينينجراد بنحو 330 كلم الى «قاعدة مراقبة» للأنشطة العسكرية الروسية في كالينينجراد، وتعمل السويد مع الناتو لوضع خطط عملياتية للعمل في الظروف العادية والطارئة في جزيرة جوتلاند خاصة في ظل اعترف رئيس وزراء السويد أولف كريسترسون بأن بلاده لا تملك سوى وجود عسكري «صغير» في جوتلاند، الأمر الذي يعتبره حلف الناتو «نقطة ضعف» استراتيجية في مواجهة الجيش الروسي، وتعمل السويد وحلفاؤها في الناتو على وضع خطط عاجلة حتى لا يستولى الروس على الجزيرة بحرب خاطفة كما جرى مع شبه جزيرة القرم عام 2014.

4 – «تعزيز القوى الانفصالية في كالينينجراد»:

وهي لعبة تجيدها الدول الغربية في ظل تشكيك غربي متزايد بحق روسيا في السيطرة على كالينينجراد، وسبق للقائد السابق للقوات البرية البولندية، الجنرال فالديمار سكشيبتشاك تصريحات قال فيها إن كالينينجراد أرض بولندية، لأن اتفاق «بوتسدام» من وجهة النظر البولندية منح موسكو إقليم كالينينجراد لمدة 50 عاماً فقط، وهذا يتنافى مع وجهة النظر الروسية التي تقول إن ألمانيا الموحدة وقعت عام 1990 معاهدة تسوية نهائية مع موسكو التزمت فيها برلين بعدم المطالبة بإقليم كالينينجراد، ولهذا يدعم الغرب بعض المجموعات الانفصالية الصغيرة داخل الإقليم والتي تدعو لانفصال الإقليم عن روسيا أو إعادته إلى ألمانيا أو بولندا أو ليتوانيا، وزادت دعوات ضم كالينينجراد لألمانيا بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في ظل حديث غربي بأن كالينيجراد إقليم أوربي بامتياز حيث يمتلك 25% من سكانه تأشيرة «شينجن» الأوروبية، ونحو 60% من سكانه حاصلون بالفعل على جوازات سفر غير روسية، وهي أفكار يعمل عليها التيار الانفصالي في كالينينجراد مثل «حزب البلطيق الجمهوري» المحظور نشاطه في روسيا.

الواضح أن التداعيات الجيوسياسية للحرب الروسية الأوكرانية تمتد وتتوسع إلى مناطق وأقاليم ظلت هادئة ومستقرة لعقود، كما أن استمرار هذه الحرب سوف ينكأ الكثير من الجراح القديمة

[email protected]

المصدر: صحيفة الخليج

amazon.ae

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى