أنظمـة الحدود في أوروبا القرن العشرين
ليست الحدود مجرد خطوط جغرافية تفصل بين الدول؛ بل هي أيضاً تجليات للسياسات، والتاريخ، والثقافة التي تشكل الهوية الوطنية، والعلاقات الدولية. وتعمل الحدود كحواجز تنظيمية تحدد الأمن، والتجارة، والهجرة، ولكنها تمثل أيضاً مساحات للتفاعل والتبادل الثقافي والاقتصادي. كما أن الفهم العميق لديناميكيات الحدود يمكن أن يكشف الكثير عن التطورات الاجتماعية والسياسية لمنطقة معينة.
يقدم بيتر بنسيك في كتابه «أنظمة الحدود في أوروبا القرن العشرين»، دراسة منهجية ومتعمقة لمجال معقد ومثير للجدل، بسبب تأثيراتها الأوسع في التاريخ الأوروبي طوال القرن العشرين. يأتي هذا الكتاب الصادر في 2024 كجزء من سلسلة دراسات روتليدج في التاريخ الأوروبي الحديث، وهو لا يثري فهمنا لسياسات الحدود فحسب، بل يتعمق أيضاً في الآثار اليومية التي خلفتها هذه الحدود في حياة الملايين.
يستخدم بنسيك، وهو باحث متمرس يتمتع بعقود من الخبرة، مجموعة من المصادر، بخاصة من أرشيفات من المجر وجمهورية تشيكيا، لتحليل تطور أنظمة الحدود في جميع أنحاء أوروبا. ويمتد تحليله إلى إطار مقارن يميز بشكل مناسب بين الممارسات التقييدية السائدة في أوروبا الشرقية والأساليب الأكثر تساهلاً الموجودة في الغرب، مع التركيز الشديد على المنطقة الانتقالية التي تمتد بين هذين النقيضين.
يمتد تفسير المؤلف لنظام الحدود إلى ما هو أبعد من مجرد العبور من دولة إلى أخرى، فهو يستكشف بدقة، أبعاداً مختلفة مثل الرحلات الداخلية، والخارجية، والحركات الدائمة والمؤقتة، وحركة المرور على الحدود المحلية، والمسافة، وحتى الجوانب المعمارية والعقابية لإنفاذ الحدود. توفر هذه النظرة الموسعة نسيجاً غنياً للمشاهد الاجتماعية والسياسية التي شكلت هذه السياسات وتشكلت بها.
عمل أنظمة الحدود في سياق العوملة
ما يميز عمل بنسيك هو فهمه الدقيق لكيفية عمل أنظمة الحدود هذه ضمن الاتجاهات العالمية الأوسع للعولمة، والإقليمية. وهو يرى أن هذه السياسات لم تكن مجرد ردود فعل على مخاوف الأمن القومي، ولكنها كانت أيضاً متشابكة بعمق مع التيارات الاقتصادية والسياسية العالمية. ويكتسب هذا المنظور أهمية خاصة اليوم، لأنه يقدم رؤى تاريخية للمناقشات المعاصرة حول الهجرة، والسيادة الوطنية.
يقول المؤلف: «الهجرة الدولية هي حركة عبر حدود الدولة. والمعابر الحدودية لها أربعة أنواع أساسية. من ناحية، يمكن أن تكون الرحلة عبر الحدود إما دخولاً (من الخارج)، وإما خروجاً (إلى بلد أجنبي). ومن ناحية أخرى، وبناء على نية المسافر، فإن هذه الحركة يمكن أن تسبب تغييراً، مؤقتاً أو دائماً، في مكان إقامته. ولذلك يمكننا التمييز بين الدخول المؤقت، والخروج المؤقت، والدخول الدائم (الهجرة)، والخروج الدائم (الهجرة). ويميل الأدب العلمي الغربي إلى التركيز على الحركات الدائمة (الهجرة)، في حين يركز علماء شرق أوروبا الوسطى في الأغلب، على الرحلات المؤقتة. ويعود هذا الاختلاف إلى الأسباب التالية: (1) كانت للهجرة الدائمة أهمية أقل بكثير في الجزء الشرقي من أوروبا. لقد غابت الهجرة واسعة النطاق عن هذه المنطقة في القرنين الأخيرين، باستثناء فترات الحربين العالميتين. وحتى في ذلك الوقت، كان «المهاجرون» في معظمهم من المواطنين الذين يصلون من الجانب الآخر من الحدود، هرباً من الاضطهاد. ولم تكن الهجرة الأكبر حجماً أيضاً، أمراً عادياً، إلا خلال فترات قصيرة، مثل العقدين اللذين سبقا الحرب العالمية الأولى».
ويضيف: «ولكن في أوروبا الغربية، كانت الهجرة الدائمة كبيرة دائماً. حتى الستينات، كانت الهجرة أكثر أهمية؛ ولكن منذ ذلك الحين، تجاوزت الهجرة هذه السرعة. ومع ذلك، يبدو أن الهجرة هي التي أثارت دائماً المزيد من المخاوف في الغرب. (2) كانت حرية السفر المؤقت أمراً مفروغاً منه دائماً، في الغرب، بينما في أوروبا الشرقية – بما في ذلك شرق أوروبا الوسطى بعد عام 1945 – كان هذا النوع من الحركة مقيداً بشدة في كثير من الأحيان».
تأثير الحدود في الهوية الأوروبية
لا يعرض المؤلف في فصول الكتاب تفاصيل التطورات التاريخية لأنظمة الحدود فحسب، بل يدرس أيضاً آثارها الأوسع في التاريخ والهوية الأوروبية. ويضع في الفصل التمهيدي بعنوان «الخلفية النظرية» الأساس للدراسة من خلال مناقشة الأطر النظرية والمنهجيات المستخدمة في دراسات الحدود. ويحدد بنسيك المفاهيم الأساسية مثل السيادة، والأمن، والهوية، وتفاعلها في تشكيل السياسات الحدودية. كما يقدم فكرة الحدود ليس كحواجز مادية فقط، ولكن كعمليات ديناميكية تتشكل من خلال عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية.
ويعاين في الفصل الثاني «ظهور النموذج الغربي والشرقي»، التطور التاريخي لنظامين حدوديين متميزين في أوروبا، وهما النموذجان الغربي، والشرقي. يتتبع المؤلف أصولها وكيف تأثرت هذه النماذج بمختلف الفلسفات السياسية والممارسات الاقتصادية. ويتعمق هذا الفصل في الأسس الأيديولوجية التي أدت إلى حدود أكثر انفتاحاً في الغرب، وضوابط أكثر تقييداً في الشرق، ما يمهد الطريق لقرن من استراتيجيات إدارة الحدود المتباينة.
ويركز الفصل الثالث «فترة الحربين العالميتين» على الدور الحاسم الذي لعبته أنظمة الحدود خلال الحربين العالميتين الأولى، والثانية. ويحلل بنسيك كيف حولت مقتضيات الحرب الضوابط الحدودية، ما أدى إلى تشديد الإجراءات والقيود الأمنية. ويناقش تأثير هذه التغييرات في أنماط الهجرة، وحركات اللاجئين، والاقتصاد في زمن الحرب، ويسلط الضوء على كيف أصبحت الحدود أدوات لاستراتيجية الحرب، والبقاء الوطني.
ويستكشف الفصل الرابع «اتجاهات الحرب الباردة» تكثيف الأنظمة الحدودية خلال الحرب الباردة، حيث كانت الحدود ترمز إلى الانقسام الأيديولوجي بين الغرب الرأسمالي، والشرق الشيوعي. يشرح هذا الفصل كيفية استخدام سياسات الحدود للسيطرة على تحركات السكان، ومنع الانشقاقات، والحفاظ على النقاء الأيديولوجي. ويدرس المؤلف أيضاً، التطورات التكنولوجية والإدارية في مراقبة الحدود وإنفاذها، خلال هذه الفترة.
ويتناول الفصل الخامس «أنظمة الحدود في شرق أوروبا الوسطى، 1945-1989»، على منطقة شرق أوروبا الوسطى، ويقدم تحليلاً مفصلاً لكيفية تطبيق الأنظمة الشيوعية لضوابط حدودية صارمة لإدارة التهديدات، الداخلية والخارجية. ويستخدم بنسيك دراسات حالة من دول مثل المجر، وتشيكوسلوفاكيا، لتوضيح التطبيق العملي لسياسات الحدود، وتأثيراتها في الحياة اليومية للناس. ويناقش الفصل أيضاً التغييرات التدريجية في هذه الأنظمة التي أدت إلى ثورات عام 1989، والتي غيّرت بشكل كبير، مشهد سياسات الحدود الأوروبية.
يشكل هذا العمل مساهمة كبيرة في الخطاب المستمر حول الوحدة الأوروبية، والديناميكيات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، وغير الأعضاء. ومن خلال تسليط الضوء على التجارب التاريخية لمراقبة الحدود، يعرض بنسيك فهماً أفضل بين الدول الأوروبية، وهو مسعى لا يقل أهمية الآن، كما كان في أي وقت مضى، وسط التوترات المتزايدة بشأن الهجرة والهوية الوطنية. ويمكننا القول إن هذا العمل يقدم رؤى جديدة حول تعقيدات الحدود، والهوية في أوروبا القرن العشرين، ويدعونا إلى إعادة التفكير في وجهات نظرنا الحالية بشأن الحدود في عالم تحكمه العولمة.